جلعاد شاليط - القسام أسرته "جنديًّا" وأعادته "مجرد مدني"، اللغز والتفاصيل

آخر تحديث:  19 أكتوبر, 2015 09:44 ص  قسم ملفات وتقارير

جلعاد شاليط - القسام أسرته "جنديًّا" وأعادته "مجرد مدني"، اللغز والتفاصيل

جلعاد شاليط اثناء اطلاق سراحه

البراق - وكالات

 

 

في الثامن عشر من أكتوبر من عام 2011م برز "جلعاد شاليط" إلى العلن بشحمه ولحمه أول مرة، بعد أن وقع في الأسر في السادس والعشرين من يونيو من عام 2006م، أي بعد مرور خمس سنوات وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يومًا وخمس ساعات بالضبط على أسره.

ومع الإفراج عنه، تنسم عبقَ الحرية أبطالٌ بلغ مجموع أحكام سجنهم ما يقارب اثنين وتسعين ألف سنة، كان أملهم بالحرية يكفيهم بالصبر على ما قضوا في السجون.

(كوماندوز) مقاوم

بدأت الفكرة بتجهيز نفق بطول "400" متر وعمق تسعة أمتار يؤدي إلى ما خلف خطوط العدو بطريقة تشبه الإنزال الجوي، ولكنها كانت"إنزالًا أرضيًّا"، وبغض النظر عن الوقت الذي استغرقه حفر النفق، يبقى السؤال كيف استُّعد إلى هذه العملية؟!

في اللحظة التي أُعلن فيها أن "النفق" جاهز لإجراء عملية الإنزال دقّت ساعة الصفر، إذ توحدت جهود كتائب الشهيد عز الدين القسام وألوية الناصر صلاح الدين وجيش الإسلام، فاستهدفت مواقع الإسناد والحماية التابعة لجيش الاحتلال على الحدود الشرقية لمدينة رفح، وهو موقع عسكري استخباري يمتد لمسافة تقارب كيلو متر، وبدأت العملية في صبيحة الأحد في تمام الساعة "5:15" بقصف تمهيدي، وإشغال لحامية معبري "صوفا" وكرم أبو سالم الصهيونيين بمدفعية (الهاون) والرشاشات.

ثم بدأ التنفيذ الفعلي الذي قامت به "وحدة الإنزال خلف خطوط العدو" التي كان عناصرها من فصائل المقاومة الثلاث، إذ أجهزت هذه الوحدة على طاقم الموقع بالكامل، وأوقعتهم بين جريح وقتيل، ودمرت دبابة من طراز (ميركفا 3) بشكل كامل وناقلة جند مصفحة، وأجهزت على طاقمها، ودمرت الموقع العسكري الاستخباري بشكل جزئي، ليرتقي في العملية إلى العلا الشهيدان: "حامد الرنتيسي" من ألوية الناصر صلاح الدين، و"محمد فروانة" من جيش الإسلام.

كانت العملية _وفق ما قالت عنها فصائل المقاومة_ "استجابة لصرخات هدى غالية" الطفلة التي فقدت عائلتها في لحظة كان من المفترض أن تكون نزهة عائلية على شاطئ بحر غزة، وإهداء خاصًّا لكل أسير فلسطيني يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

وحينها قالت المقاومة: "العدو يدرك أننا قادرون على تنفيذ سلسلة من العمليات الاستشهادية والتفجيرية في مدنه وتجمعاته السكنية، ولكننا آثرنا هذه المرة أن تكون العملية في هذه العقدة العسكرية الحصينة، لتكون رسالة بليغة وأخيرة لقيادة العدو، مفادها أن يجنب المدنيين نيرانه الحاقدة، وتبقى المساجلة بين أبطال المقاومة وجنوده المهزومين".

تسريبات تحتاج لدليل

وبدأت الأخبار تسري بين المواطنين مفادها أن المقاومة في هذه العملية أسرت جنديًّا إسرائيليًّا، وجاء دور المقاومة لتثبت أو تنفي صحة الخبر بعد أن أخذ الاحتلال الإسرائيلي يخفف وطأة الحدث، في محاولة منه لحفظ كبريائه، إلا أن المقاومة أتقنت اللعبة ولم تخرج بأي دليل يؤكد أن الجندي لديها.

فكان البيان العسكري رقم (1) لها في اليوم التالي للعملية، وبتاريخ "26/6/2006م"، واحتوى على التالي: "بعد النتائج المشرفة التي حققتها هذه الموقعة الباسلة، واستجابة للوساطات والتدخلات المختلفة؛ إننا نعلن أن الاحتلال لن يحصل على أي معلومات حول جنديه المفقود، إلا بعد أن يلتزم بالتالي: الإفراج الفوري عن كافة الأسيرات في السجون، والإفراج الفوري عن كافة الأطفال في السجون دون سن الثامنة عشرة، إذ يتنافى هذا الاعتقال مع كل القيم الإنسانية".

ولكن قادة الاحتلال اعتقدوا أن الضرب بيد من حديد على غزة سيكون الحل الأمثل لجعل المقاومة تخضع ذليلة لهم ويتحرر "شاليط" دون ثمن يدفعه الاحتلال الإسرائيلي، بل بثمن يدفعه آسروه؛ ليكونوا _وفق تصوره_ عبرة لغيرهم ممن تسول لهم أنفسهم مد يدهم بالسوء ضد أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

فكان البيان العسكري رقم (2) لفصائل المقاومة بتاريخ "1/7/2006م"، واحتوى على تأكيد مطالب الخاطفين وإقرارها مجددًا كالتالي: "الإفراج عن جميع الأسيرات والأطفال دون سن الـ"18" كبادرة إثبات جدية وحسن نوايا مقابل معلومات عن الجندي المفقود، والإفراج عن ألف من الأسرى الفلسطينيين والعرب والمسلمين من أي جنسية كانوا، شاملًا ذلك بالدرجة الأولى: جميع قادة الفصائل الفلسطينية، وجميع ذوي الأحكام العالية، وجميع المرضى ذوي الحالات الطبية الصعبة والإنسانية، إضافة إلى وقف كل أشكال العدوان والحصار التي تمارس على الشعب الفلسطيني".

ولكن الاحتلال لم يعِ الرسالة جيدًا، واعتقد _حسب ما ورد عن المقاومة_ أنه يمكن له المضي في غروره وعنجهيته وتدميره وإراقته للدماء الطاهرة، رغم كل الوساطات التي تدخلت، علّها تحقن الدماء، وتعمل على الوصول إلى حل وسط بين الطرفين: الاحتلال والمقاوم.

الفصائل الآسرة أصدرت في "3/7/2006م" بيانها العسكري رقم (3) وفيه جاء: "أمام إصرار العدو على إسقاط جميع المعايير الإنسانية، وإصراره وهمًا على إجراءاته العسكرية ودوام عدوانه؛ فإننا نمهل العدو الصهيوني حتى الساعة السادسة من صباح يوم غد الثلاثاء الموافق 4/7/2006م".

وأضافت: "إن لم يستجب العدو لمطالبنا الإنسانية الواردة في بياننا السابق حول شروط التعامل مع ملف الجندي المفقود، وابتداءً من تنفيذ البند الأول فيه؛ فإننا نعد الملف الحالي قد "طُوي" بإصرار قيادة العدو واستكبارها، وحينها على العدو أن يتحمل كامل النتائج المستقبلية".

حزب الله وحرب غزة

وبدأت أولى الوساطات بين طرفي المعادلة: الاحتلال والمقاومة بقيادة الوفد المصري، علمًا أن كتائب "القسام" كانت المتصدرة للتفاوض باتفاق داخلي مع الفصائل الآسرة، ثم تعاقب على الوساطة الأيرلنديون ومن بعدهم الألمانيون، حتى عادت الكرة إلى ملعب الوفد المصري مجددًا، بعد أن حاولت الكثير من الدول العربية أن تكون هي الوسيط؛ لتكسب بعض الصيت، ولكن الأولوية بحكم الجوار كانت لمصر.

وعادت هي قائدة عملية التفاوض، وبدأ يجتمع الفريقان في غرفتين منفصلتين في مكان التفاوض، ويتنقل بينها "المصري" واسطة خير، في ظل إصرار الوفد المقاوم المتعمد على عدم الالتقاء بتاتًا بأي شخص من الوفد الإسرائيلي، تمسكًا بمبدأ عدم التفاوض المباشر مع الاحتلال؛ حتى لا ينال أي شرعية طفيفة من تبعات التفاوض الوجاهي.

وبعد مرور إسرائيل بحربها مع لبنان في يوليو 2006م، حدثت صفقة التبادل بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، في يوم الأربعاء "16/7/2008م"، وأفرج بموجبها عن الأسير اللبناني "سمير قنطار"، وعن أربعة أسرى لبنانيين من أفراد حزب الله، وجثث "199" لبنانيًّا وفلسطينيًّا وآخرين مقابل تسليم حزب الله جثتي الجنديين الإسرائيليين اللذين قتلهما في عملية "الوعد الصادق" في يوليو 2006م.

قليل من الأمل تسرب إلى أبناء الشعب الفلسطيني، لعل إنجاز صفقة حزب الله تكون فأل خير على إنجاز صفقة التبادل بين إسرائيل وكتائب القسام؛ فيتحرر الأسرى مقابل "جلعاد شاليط"، رغم أن صفقة حزب الله كانت تتعلق بعدد من الجثث لا الأحياء، ولكن إسرائيل عوضًا عن المضي قدمًا في المفاوضات قامت بعدوانها على غزة في أواخر عام 2008م.

وكان من أهدافها البحث عن "شاليط"، وفي غمار الحرب كانت الأوامر واضحة لجنود العدو بقصف كل جندي تأسره المقاومة؛ حتى لا يزداد عدد الأسرى لدى القسام، وبعد انتهاء الحرب كانت جهود الاحتلال تبلغ صفرًا لمعرفة أدنى معلومة عنه، رغم أنها جندت الكثير من العملاء ليكشفوا لها عن مكان وجوده.

ومنها ما حدث عندما انتشرت الأخبار عن مجموعة من النساء يبحثن في حاويات القمامة عن أي ضمادات عليها دم؛ لإرسالها للاحتلال؛ بهدف تحليل "الحمض النووي"، ومعرفة هل تعود لـ"شاليط" أم لا؛ بهدف تحديد الموقع الجغرافي الذي تخفيه فيه كتائب القسام.

ولكن كل تلك الجهود باءت بالفشل، ما منح القسام نقطة قوة؛ فوصلت لاتفاق مع الاحتلال للإفراج عن عشرين فتاة فلسطينية من الأسيرات القابعات في السجون مقابل شريط (فيديو) يظهر "شاليط" على قيد الحياة.

"شاليط" حي يرزق

وفي الثاني عشر من أكتوبر من عام 2009م، خرجت علينا وسائل الإعلام الإسرائيلية بشريط (فيديو) يظهر فيه "شاليط" مرتديًا زيه العسكري، وجالسًا على كرسي ومن خلفه خلفية لا يمكن تمييزها، وبيده عدد من صحيفة "فلسطين" اليومية بتاريخ الرابع عشر من سبتمبر.

وتحدث "شاليط" موجهًا كلمات لعائلته ببعض المواقف التي تثبت شخصيته، وقد لوحظ ظهوره مرتديًا الزي العسكري، وكأن المقاومة أرادت أن تقول للعالم: "إننا أسرناه "جنديًا" وهو يحارب، لا آمنا في بيته"، أما ظهور صحيفة فلسطين فكان دليلًا على أن "شاليط" حي يرزق بدلالة التاريخ المكتوب على صدر صفحتها الأولى.

وعلى إثر هذا الشريط أفرجت قوات الاحتلال عن عشرين أسيرة فلسطينية، وشملت القائمة _حسب تصنيف الانتماء السياسي_ أربع أسيرات من حماس، وخمسًا من فتح، وثلاثًا من الجهاد الإسلامي، وسبع مستقلات، وواحدة من الجبهة الشعبية، وفق ما ورد في بيان لكتائب القسام في "30/9/2009م".

وفي أواخر "نيسان (أبريل) 2010م"، خرج علينا المكتب الإعلامي لكتائب القسام بـ(فيلم كرتوني) لـ"نوعام شاليط" والد "جلعاد" وهو يسير في شوارع أراضي الـ(48) ممسكًا بصورة ابنه، ويرى لافتات إعلانية، الأولى يظهر فيها "إيهود أولمرت" وهو يقول: "أعدكم بإطلاق سراح جلعاد شاليط"، ويستمر سير "نوعام" في الطرقات _في إشارة إلى التقدم في الزمن_ فيرى اللافتة الثانية، وفيها "بنيامين نتانياهو" يكرر قول "أولمرت".

ويكمل "نوعام" سيره، فيعثر على صحيفة ملقاة في سلة المهملات، ويجد فيها عرض جائزة لمن يدلي بمعلومات عن الجنديين المفقودين "شاليط" و"أراد"، وخبر إنشاء حكومة الاحتلال لوزارة الأسرى والمفقودين، وفي سيره المستمر يرى اللافتة الثالثة وهو عجوز يتكئ على عصا، ويظهر فيها صورة لرئيس وزراء مستقبلي وهو يقول: "أعدكم بمعرفة مصير "جلعاد شاليط"، ثم تذعن إسرائيل وتعمل على إنجاز الصفقة ويتحرر عدد من الأسرى، وينتظر "نوعام" ابنه عند حاجز "بيت حانون"، فتأتي السيارات السوداء، ويستقبل "جثة" ابنه عوضًا عن ابن حي يرزق، ولكنه ينتفض مستيقظًا، وبجواره صورة لابنه، ويختم (الفيلم) بصوت المعلق وهو يقول: "مازال هناك أمل".

ولغز اختفاء "شاليط" في قطاع غزة حير مخابرات الاحتلال وعملائه، لدرجة أنه لم يدخر جهدًا في محاولة معرفة مكانه، إلا أن الإفلاس الذي مُني به جعله يحدد جائزة مالية مجزية لمن يدلي بأي معلومة عن مكان وجوده، عبر بث رسائل مسجلة لأهالي غزة، وصلت إلى هواتفهم النقالة والثابتة، إضافة إلى بثها لهم عبر الإذاعات المحلية مخترقة تردداتها.

الإطار النهائي للصفقة

وفي يوم الخميس الموافق السادس من أكتوبر من عام 2011م، وصلت صفقة التبادل إلى لحظات المخاض الأولى لترى النور، فشهد هذا اليوم توقيع الإطار العام النهائي للصفقة، بمعنى آخر الاتفاق على المحددات الرئيسة للصفقة، دون تحديد التفاصيل الدقيقة المتضمنة بمعرفة من هم الأسرى المتفق على الإفراج عنهم، ومن سيبعد _وفق تسمية حكومة الاحتلال_ إلى غزة أو إلى الخارج.

وبعد مرور أيامٍ خمس، وبالتحديد في يوم الثلاثاء الموافق الحادي عشر من أكتوبر من عام 2011م، وضعت النقاط على الحروف، وكان الاتفاق النهائي على كل حيثيات الصفقة بعد اجتماع استمر أربعًا وعشرين ساعة متصلة، فاتفق على "450" اسم أسير ليكونوا من المفرج عنهم في المرحلة الأولى من الصفقة، ومن منهم سيكون (إبعاده) إلى غزة أو إلى الخارج، واتفق على ثمانية عشر اسمًا ليعود أصحابها إلى ديارهم بعد عام من إتمام الصفقة، وثمانية عشر اسمًا آخرين سيعودون إلى ديارهم بعد ثلاث سنوات.

واتفق مع وفد الاحتلال المفاوض على تجميع الأسرى المنوي الإفراج عنهم إلى الضفة وأراضي الـ(48) في سجن عوفر، والأسرى الذين سيبعدون إلى غزة والخارج في سجن النقب، عند إتمام ساعة الصفر المتعلقة بالإفراج عنهم، التي امتدت من لحظة الإعلان عن إتمام الصفقة حتى آخر يوم لهم في قلب السجون.

ومن بنود الاتفاق أيضًا أن تتفقد طواقم المخابرات المصرية عملية نقل الأسرى، والتحقق من ضبط العملية وفق الأسماء الواردة في الكشف المتفق عليه بين طرفي الوفد المفاوض، فبذلت المخابرات المصرية كامل جهدها لتتيقن تمامًا من سلامة كل حركة من حركات النقل.

والتزم الصليب الأحمر بطلب الوفد المقاوم منه عدم القيام بأي خطوة منفردة، وإنما يلتزم بتعاونه مع المخابرات المصرية، ووضع قيادة الحركة الأسيرة في صورة الأحداث، وتنفيذ "التشييك" على أسماء الأسرى في حضورها، وحدد الاتفاق أن يكون الإفراج عن الأسرى و"شاليط" في تمام التاسعة من صبيحة الثلاثاء الموافق "18/10/2011م".

لغاية في نفس يعقوب

وبدأت مرحلة المخاض تشتد، ويصل التبليغ إلى قيادة حركة المقاومة الإسلامية في الخارج والداخل بالاستعداد إلى عقد مؤتمر صحفي يعلن فيه "خالد مشعل" إنجاز الصفقة في تمام الساعة "7:30" من مساء الثلاثاء الموافق "11/10/2011م"، بعد أن يكون الوفد المقاوم استقر في غزة عائدًا من مصر، ثم يهنئ "إسماعيل هنية" الشعب بإتمام الصفقة في تصريح خاص به.

وبطبيعة الحال لم يكن الوفد الإسرائيلي قادرًا على الإيفاء بالالتزام بضبط تسريب الخبر لوسائل الإعلام حتى تمام الساعة "7:30"، فقد أخبر الوفد المقاوم أنه من الممكن في حال صدق (الكنيست) على قرار الصفقة أن يتسرب الخبر عن طريق الهواتف الخلوية الخاصة بالوزراء، ولكن تسريبهم كان في الساعة "7:15"، فلم يكن الوقت بعيدًا عما اتفق عليه الطرفان.

وفي اللحظة التي أعلن فيها "مشعل" خبر إتمام الصفقة ورحب به "هنية" خرجت غزة كلها عن بكرة أبيها، لكن الموقف المختلف كان في سجون الاحتلال، فالسجون في تلك الأيام كانت تشهد إضرابًا منظمًا عن الطعام، ولكن أحد أهم المنظمين له لم يكن ضمن المشاركين في الإضراب بأوامر من قيادة الوفد المقاوم، وذلك لغاية في نفس يعقوب.

وفي نفسه (القائد الأسير) كان تنازع كبير، فكيف لقيادة الحركة الأسيرة ألا تكون عنصرًا فاعلًا في هذا الإضراب، ولكن النتائج المترتبة على دخوله الإضراب تعني نقله إلى سجون العزل الانفرادي، وانقطاع تواصله مع الوفد المقاوم ومعرفة أخبار زملائه السجناء، وقبل موعد إعلان "مشعل" عن الصفقة تواصل مع قيادة الوفد المقاوم راجيًا منهم السماح له بخوض الإضراب.

فجاءه الرد: "انتظر حتى "7:30"؛ لأنك ستسمع عندها خبرًا يثلج صدرك وصدور من حولك، وفعلًا عندما التقت عقارب الساعة، وصل الخبر إلى السجون أن الصفقة تمت بالمطالب نفسها التي خرجت بها منذ اليوم الأول لعملية "الوهم المتبدد"، وفي المقابل بلغ الوفد المقاوم مقدار الفرحة التي عمت السجون من تكبير وتهليل.

بعد خمس سنوات، كان تعنت الاحتلال متمثلًا بالرفض التام لإدراج بعض الأسرى في الصفقة، كرفضهم الإفراج عن الأسرى من أراضي الـ(48) والقدس، ورفضهم الإفراج عن: "أحلام التميمي" و"قاهرة السعدي" و"آمنة منى"، و"مجموعات أسر الجنود"، ومن يطلق عليهم الاحتلال (ذوي الأيدي الملطخة بدم الجنود اليهود) مباشرةً، وهو ما انكسر في نهاية الصفقة بنيلهم الحرية.

ولكن تعنتهم استمر برفضهم تمامًا إدراج أسماء رئيسة في صفقة التبادل مثل: "عباس السيد" و"إبراهيم حامد" و"حسن سلامة" و"عبد الله البرغوثي"، والأخوين: "بلال"، و"جمال الهور"، و"جمال أبو الهيجا"، ومع ذلك عدّ وفد المقاومة المفاوض ما وصلت إليه المفاوضات مع الاحتلال في هذه اللحظة "ممتازًا".

حنكة خبير عسكري

ومع اقتراب اليوم الموعود، بدأت عقارب الساعة تخون الوقت، فهي ثابتة لا تتحرك، لعلها لا تصل إلى تمام الساعة التاسعة، وأما سماء غزة فكانت ملبدة بطائرات الاستطلاع بشكل كثيف جدًّا، لعلها تظفر بمراقبة دقيقة تكشف لها عن مكان وجود "شاليط"؛ فيكون هدفًا سائغًا لصواريخها وتريح نفسها من مرارة الإفراج عن الأسرى، لكن المقاومة مجددًا لعبتها بذكاء.

فالموعد المتفق عليه هو تمام التاسعة، ولكن الفريق المقاوم تحالف مع عقارب الساعة، وطالبها أن تسير بخطاها الهادئة نحو العاشرة، تضليلًا لكل من جندهم الاحتلال عيونَ مراقبةٍ ورصد، حتى إن رئيس الوفد الإسرائيلي اتصل برئيس الوفد المصري يسأله: "هل تسلمت "شاليط"؟"، فضحك المصري وهو يقول له: "الزنانة أكيد شايفة اللي بيحصل، إزاي تسلمته وهي ما أكدتش الخبر ليك؟!"، وفي لحظة واحدة ومن مواقع مختلفة في القطاع خرجت مواكب متعددة من سيارات (الجيب) البيضاء؛ فسببت ارتباكًا لزنانات الاحتلال وعملائه.

وفي مشهد مهيب تجمعت السيارات البيضاء كلها في معبر رفح، ونقلت (كاميرات) الإعلام صورة للوحة جلدية كبيرة كُتب عليها: "الوهم تبدد.. والوعد تحقق"، في إشارة إلى كسر مقولة: "الجيش الذي لا يقهر"؛ فالمقاومة قهرت إرادته وحررت الأسرى.

أما المعبر فقد أخلي من المسافرين، وبقيت فقط جهات الاختصاص التي تتعلق مهمتها بعملية الصفقة، وظهر بشكل علني من الوفد المقاوم القيادي في كتائب القسام "أحمد الجعبري"، ووجهه تعلوه ابتسامة خبير عسكري محنك، وحوله مجموعة ملثمة من شباب القسام.

وبينهم يظهر "جلعاد شاليط" وأخيرًا بعد مرور خمس سنوات وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يومًا وخمس ساعات بالضبط على أسره، ومجموعات القسام تقوده وهو بلباس مدني، لا ببزته العسكرية التي كان يرتديها لحظة أسره وظهر فيها بشريط (الفيديو)، وكأن القسام أرادت أن تقول للاحتلال الإسرائيلي: "أخذناه جنديًّا ونعيده مدنيًّا".

في قبضة القسام للنهاية

ولم يُسمح لأيٍّ كان بالاقتراب من "شاليط"؛ مخافة أن يكون هناك من أرسلته إسرائيل لمحاولة اغتياله وإفشال تنفيذ الصفقة، وقد بقي "شاليط" حتى تمام تحرك الحافلات المحملة بالأسرى في قبضة "القسام"؛ تحسبًا لأي محاولة إفشال للصفقة، وكأنهم أعدوا العدة لسحبه في أية لحظة يشعرون فيها بغدر الاحتلال.

وحتى يصدر الأمر لحافلات الأسرى التي تحتوي على "450" أسيرًا بالانتقال، كان لابد من إجراء "شاليط" لمقابلة عبر "الفيديو كونفرنس" مع الوفد المفاوض الإسرائيلي، فجلس يواجه شاشة اللقاء ومن حوله تجمع "القسام"، ثم هاتف والدته ليطمئنها على حاله.

وتحركت الحافلات وانطلق "شاليط" باتجاه معبر "كرم أبو سالم"، وتلاقى الموكبان معًا كلٌّ في اتجاهه، حافلات الأسرى تقترب شيئًا فشيئًا في مشهد فرح أسطوري غير مسبوق لفلسطين، أدرجه التاريخ عيدًا ثالثًا لها.

عبرت الحافلات إلى المعبر المصري، وبدأ رئيس الوزراء "إسماعيل هنية" باستقبال الأسرى المحررين الوافدين إلى غزة، سواء كانوا مبعدين أو من أهلها، لتبقى "ثقة" الوفد المقاوم في المخابرات المصرية هي الدافع والأمل لاستكمال الصفقة، والإفراج عن "550" أسيرًا آخرين بعد شهرين، وقد كان.

وفور عودة "شاليط" إلى الاحتلال الإسرائيلي الشيء الوحيد الذي نقلته وسائل الإعلام عنه قوله: "كنت أقرأ الصحف والكتب وأستمع للإذاعة، والطعام كان شهيًّا، وسأفتقد عددًا من السجانين من حماس، ولقد تعلمت من الإسلام الكثير، والفحص الطبي كان دوريًّا، وقد وعدتهم ألا أعود لحمل السلاح ضد الفلسطينيين، وبعد يومين من الأسر أبلغوني أنهم لا يقتلون الأسير مهما حدث، وفق تعاليم الإسلام، ولم أعذب أو أضرب".

رسالة "شاليط" لوسائل الإعلام ضربت للعالم مثالًا كيف يعامل المسلمون أسراهم، دون الحاجة لمطالبات بتطبيق اتفاقية جنيف وغيرها، في حين أن الاحتلال لا يتوانى عن خرقها ومحاولة إذلال الأسرى الفلسطينيين وانتهاك حقوقهم بشتى السبل؛ فهل يسعى "شاليط" لإكرام أسرانا عرفانًا بجميل المقاومة؟!.


إستطلاع رأي :

هل ماتت المصالحة أم مازالت حية ؟

تاريخ انتهاء الاستفتاء : 31/12/2018